الجنس الأدبي قاراً.. الجنس الأدبي عابراً

د. نادية هناوي

* تعد الفلسفة الحقل المعرفي الأكثر إحاطة بتاريخ الأفكار وأنظمتها بدءاً من الرواقية وصولاً إلى الفلسفة الحديثة

* للتاريخ حركة جدلية يخضع لها بناء المجتمع ومن خلالها يكون الأدب محاكياً العالم فنياً وأخلاقياً

* تتعدد الفلسفات والنظريات التي درست تطور الفن والأدب ومنها النظريات: الطوباوية والثورية والبرجوازية والتاريخية والاجتماعية

* أعراف صناعة أجناس الأدب هي كأعراف بناء المجتمع تخضع لتاريخ طويل من البناء الفكري والوعي المعرفي وعلى مختلف مستويات الحياة وأنماطها المعيشة

* التطور في ميكانيزمية عملية العبور هو الأكثر تمظهراً من مجرد التطور في ميكانيزمية صناعة الجنس الأدبي بسبب ما يكشفه العبور من ممكنات

* لماذا لم تتحول الأشكال كالحكاية والأهزوجة والترنيمة إلى أجناس على الرغم من تاريخها الطويل؟ لأن التراكم الكمي وحقيقة الوجود التاريخي الطويل لا يشفعان له في إثبات وحدته الشكلية وقوته

 

للأشياء أبعاد تجعل من اليسير قياس تمددات حجومها في الفراغ وما تشغله مساحاتها من حيز مادي فضلاً عن كونها تتبع بعضها بعضاً بحسب نظام ممنهج أو أسلوب محدد، من خلاله تعرف بداية كل شيء ونهايته، وما يمر به من مراحل أو تطورات وما يقبله من إحالات أو تحولات. ومثلما تتفاوت الأشياء في استمرارها واندثارها فكذلك هي الأفكار لها أبعاد وأنظمة وأساليب، منها ما ينتهي وقد بدأ للتو ومنها ما يصمد فيكون أمد بقائه طويلاً.

الفلسفة وتاريخ الأفكار

يمكن من خلال تتبع تاريخ الأنظمة، الوقوف على طبيعة المراحل التي مر بها تطور الأفكار والأصول التي تمخضت عن تطور المجتمعات عامة وصناعة الفن والأدب خاصة. وتعد الفلسفة الحقل المعرفي الأكثر إحاطة بتاريخ الأفكار وأنظمتها، بدءاً من الفلسفة الرواقية التي آمنت بمسائل نظامية وقدمت لها تفسيرات منطقية، خالفتها فيها الفلسفة السفسطائية. واستمر الأمر وصولا إلى الفلسفة الحديثة وفيها تبنى الماديون مذاهب تؤكد أن للعقل دورا في إنتاج الأفكار وبلورتها في أشكال فنية وأدبية.

وحاولت بعض النظريات تفسير التطور الاجتماعي للأفكار فنا وأدبا، فقدمت الأفكار على الأشكال استنادا إلى مقولة إن الأفكار تحكم العالم وإن هذه الأفكار يبتدعها الفلاسفة والمفكرون والعلماء وبها يشكلون الواقع ويصنعون التاريخ. وهو ما رفضته الفلسفات المثالية من ناحية الإنسان وحاجته إلى الفن، وأثر ذلك في تشكل الطبقات والصراعات وما تتركه من ملامح عامة وفردية على المجتمع. ونظرت إلى الأشكال بوصفها صناعة وأن الفنان هو الذي يضع للأفكار أشكالا وبحسب ما يمتلكه من قابليات وقدرات.

وتتعدد الفلسفات والنظريات التي درست تطور الفن والأدب، ومنها النظرية الطوباوية والنظرية الثورية والنظرية البرجوازية والنظرية التاريخية والنظرية الاجتماعية، وتتفاوت هذه النظريات في تفسير أثر المجتمع في حركة الفن والأدب. ولكنها تتوافق على حقيقة أن هناك علاقة وثيقة بين الحياة والفن، وأن للتاريخ حركة جدلية يخضع لها بناء المجتمع، ومن خلالها يكون الأدب محاكيا العالم فنيا وأخلاقيا.

الأجناس الأدبية

أيا كانت التفسيرات الفلسفية، فان المؤكد هو أن للتاريخ فاعلية لا يمكن تجاهلها في مجال التنظيم المجتمعي وصناعة الأدب. وكلما مر عليها الزمان، توضحت أبعادها النصية وتحولت من كونها أعمالا إبداعية إلى أن تكون لها سمات نوعية وتقاليد فنية، تصبح بمرور الزمان محددة ومتبلورة في قوالب هي عبارة عن مواضعات إنتاجية بموجبها يؤلف الشاعر قصيدته وعلى وفقها يكتب القاص حكاياته. ويطلق على هذه القوالب اسم «الأجناس الأدبية»، حيث كل جنس هو وعاء فيه تصب الأفكار صباً، فتمتلك شكلها الفني الاجناسي. ولو لم يكن للأجناس الأدبية بعد تاريخي، لما استمرت في قوتها ولا استقر تبلورها على حال معينة وبعلاقات معروفة ومقننة. بعكس النصوص الإبداعية التي هي في حالة تبدل دائم، تتغير وتتطور بلا نهائية تبعاً لما تقطعه المجتمعات من رقي على سلم التطور الاجتماعي وما يمر به الإنسان بشكل مستمر من تجارب وخبرات فيتعمق وعيه وتتنوع إبداعاته الأدبية. 

حركية القوانين الأدبية

وإذ يعكس تطور النصوص قوة فاعليتها، فإن تطور الأجناس يعكس ما يطرأ على أدب أمة ما من تطور أو تقدم. وليست القوانين التي تحكم أدبية الأجناس بعيدة عن القوانين التي تحكم المجتمع البشري. وقد أبدى المفكرون اهتماما عميقا بالبحث في حركية القوانين الأدبية وتفاعلاتها والطريقة التي بها تستحدث وتختمر. وتكلموا عن ضروراتها وأشكالها وأثاروا تساؤلات عن الطريقة التي بها تضبط صناعة التجنيس فتتشكل للكتابة الأدبية قوالب خاصة على وفق مقاسات معينة تماماً كالأعراف التي يصنعها المجتمع ويضبط من خلالها أساليب العيش والتفاعل بين البشر في علاقاتهم بالطبيعة والكون. بمعنى أن أعراف صناعة أجناس الأدب هي كأعراف بناء المجتمع تخضع لتاريخ طويل من البناء الفكري والوعي المعرفي وعلى مختلف مستويات الحياة وأنماطها المعيشة.

وصار من محتمات صناعة الأدب أن يكون كل جنس أدبي قارا في ضوابطه الحدية إلى أمد قد يطول أو يقصر بحسب ما يستجد في الأدب من جديد يكون للتاريخ وحده أن يؤكد حقيقة ولادته، وأنه بالفعل يحمل مواصفات التجنيس ويملك خصائصه. وكيفما تكن ولادة القالب الأجناسي، فإن الأفكار تتأطر على وفقه.

وإذا كان للتعبير عن الأفكار أن يبقى متاحاً من دون محددات نصية، فإن التجنيس قار، وبه يتوكد ما للأدب من تاريخ، يعطي له خصوصية تعبيرية وقيما إبداعية بوصفه عملاً مصوغاً في قالب ومشكلاً فنياً بحسب أبعاد التجنيس المعلومة أدبياً ونقدياً. وصحيح أن الأفكار تصلح لأي أدب غير أن ما يصلح منها لجنس أدبي قد لا يصلح لآخر. ومن هنا انضبطت الأجناس ولم تتعدد أو تتنوع بينما استمرت الأفكار في التنوع بلا ضابط. وما يفهم من هذه العلاقة الجدلية بين التفكير والقولبة هو أن للأدب أشكالا مختلفة في التعبير عن الأفكار، وأن هذه الأشكال تطورت عبر التاريخ وبتطورها ظهرت القوالب الاجناسية بأبعاد فنية وسنن كتابية، تعارف عليها الأدباء والشعراء كأنظمة أو أصول.

القالب الأجناسي

من هنا يكون أصل كل جنس أنه كان شكلاً لكن ليس لكل شكل أن يكون جنساً، فقد برهنت التجارب أنه ليس للأشكال أن تستقر في أبعادها وحركاتها سوى ذاك الشكل الذي يقبل التقولب، فيكون قابلا للقياس محدداً بلا سيولة أو انفلات. أي ان الأشكال التي لم يصح معها أن تكون أجناساً هي التي لم تنجح في اختبار الثبات. من هنا نفهم لماذا لم تتحول الأشكال كالحكاية والأهزوجة والترنيمة إلى أجناس بالرغم من تاريخها الطويل ومثلها أشكال كثيرة تعود إلى أزمان بعيدة، بعضها اندثر وبعض منها لا يزال مستمرا كشكل ليس له أن يَثبت عمليا ومن ثم لا يصلح لأن يكون قالبا. أي ان تراكمه الكمي وحقيقة وجوده التاريخي الطويل لا يشفعان له في إثبات وحدته الشكلية وقوته أمام أشكال وأنواع أخرى هي أقوى منه أبعاداً وترابطاً على مستويي الكتابة والكلام.

فللقالب الأجناسي قواه الدافعة، وخلفها يكمن البعد التاريخي لصناعته والذي معه يكتسب استقراره فيكون مختلفا ومتميزا عن غيره من الأنواع أو الأجناس. وكان لمنظري الأدب دورهم في أن يقفوا على مسائل تتعلق بقضية الأجناس فكشفوا عن تطورها المعقد، وساهم البنيويون في تقديم بعض التصورات حول تصنيف الأجناس ولكن التناقض كان بادياً عليهم ولا سيما في ما يتعلق بمسألة الربط بين الوجود الاجتماعي والوعي الأدبي، أي بين نشاط الإنسان في مضمار الإنتاج المادي والعلاقات الذهنية التي يضمنها هذا الإنتاج وبين الوعي بالعوامل التي تقود إلى إنتاج قيم اجتماعية أو فردية.

فمثلاً افترض تودوروف أنه لا أصل لأي تجنيس أدبي وأن «الاستمرار في الاهتمام بالأجناس الأدبية في الوقت الحاضر بمنزلة تمضية لوقت الفراغ إن لم يكن عملاً قد فات أوانه وجميعنا يعلم بأنه كانت توجد الموشحات والمقطوعات الغنائية والسونيتات والتراجيديات والكوميديات منذ عهد الكلاسيكيين السعيد لكن ما الذي يتبقى اليوم من ذلك؟»، موافقاً بذلك موريس بلانشو القول بـ«اللاتجنيس» والذي ينطلق أصلاً من فلسفة كروتشه القائمة على فرضية أن الحدس أساس الأدب. ولقد تساءل بلانشو إلى أين يتجه الأدب؟ وأجاب: إنه يتجه نحو ذاته، نحو كنهه الذي هو الاختفاء، داعياً إلى محو الفوارق بين الأجناس من خلال إفلات الأدب من أي تقنين أو ضبط لجوهره. وكأن الأدب واللاأدب واحد. واستند إلى مقولة هيغل:«الفن بالنسبة لنا شيء متجاوز»، ليقول: إن «الكتاب وحده يهمنا كما هو بعيداً عن التصانيف الأجناسية وخارج كل الخانات التي ترفض ان يقبع في إطارها والتي لا يعرف بمشروعية سلطتها عليه وعلى مكانته وشكله. لم يعد الكتاب محكوماً بالانتماء إلى جنس معين بقدر ما ينتمي إلى الأدب حسب».

وهم المستكشف

والمحصلة أنه لا أهمية البتة في تتبع تاريخ الأدب والحديث عنه أو الاعتماد عليه، إذ لا أسس تشكلت ولا تقاليد ترسخت ولا مواضعات تم التوافق عليها في نظم الشعر وكتابة السرد !!. بيد أن تودوروف لم يستطع أن يخفي قلقه من هذه الدعوة إلى إهمال تاريخ الأجناس الأدبية، فقال: «كل تأويل للتاريخ يتم انطلاقا من لحظة الحاضر. أما تأويله برمته، فإن فيه (وهم المستكشف) وأن ما اختفى ليست الأجناس، بل أجناس الماضي التي عوضت بأجناس أخرى». وبهذا يكون موقف تودوروف النهائي من الأجناس غير محدد، فلا هو تبنّى فكرة إلغاء التجنيس ولا هو رفضها أصلا وفصلا.

ومثل تودوروف كثير من المنظرين البنيويين وما بعد البنيويين الذين لم يميلوا الى التجنيس ولكنهم لم يرفضوه، نظرا لما في القول بالأجناس الأدبية من حقيقة قارة، تؤكدها هذه القوالب المحددة في مواصفاتها والمعلومة في ضوابط حدودها وقابليتها للمقايسة والتي بها نعرف ما يجري فيها من عمليات تطور وتحول وما قد تكتسبه من قوة في الصمود بوجه المتغيرات. وليست هذه المتغيرات سوى توكيد لما في أجناس معينة من خواص لا تتوفر في غيرها وما لحدودها من قدرة على فرض حديتها على سواها، فتكون من ثم عابرة بمقاسات محتمة فرضا ووجوبا.

هذه الفاعلية ذات الحركية الهندسية تنطبق على الأجناس كلها العابرة وغير العابرة لامتلاكها قوالب منظمة، وبها تكتسب النصوص الإبداعية أشكالها الفنية ومن دون ذلك تبقى هذه النصوص حرة لا تتقيد بتاريخ كخطابات غير محددة بفضاء زمكاني ولا قارة بأطر كتابية.

ولبعض الأجناس خواص فنية من ناحية قدرتها على الضم والاحتواء والصهر لأشكال وأنواع أخرى من صنفها ومماثلة لعملها، مما يجعلها أكثر سعة منها وأرحب امداء إلى درجة أنها تكون قادرة على ضم غيرها من الأجناس والأنواع والأشكال فيها ومن ثم العبور عليها، واسمة إياها بميسم نظامها الاجناسي. فإذا كان الجنس العابر سرديا مثلا، فان المعبور عليه سيوسم بميسمه السردي أيضا. 

التجسير

التجسير عمل نوعي يسبق العبور، وبه يتأكد أمران: الأول أن الارتباط عضوي بين الأنواع والأشكال والأجناس ولكنها غير متماثلة في أنظمتها كحدود واشتغالات ومقاسات. والأمر الآخر أن الجنس الأدبي العابر هو وحده المتميز بقدرته على تسخير هذا الارتباط العضوي لمصلحته تجسيراً أولاً وعبوراً آخراً، ومعه سيستحيل من ثم أمر التداخل أو التعالق. فالجنس ليس نصاً كي نفترض تعالقه بآخر وإنما هناك تجسير هو مرحلة أولى تفضي إلى العبور كمرحلة ناجزة لمصلحة الجنس العابر الذي مد تواصله مع جنس أو نوع آخر ثم تمكن من ضمه ليكون مطبوعاً بطوابعه الفنية ومقاييسه الحدية.

فالتجسير اتصال مؤقت نهايته عبور ناجز كمعادلة فيزياوية، فيها للمادة خواص تمتلكها مثل الكتلة والحجم وهي التي تعطيها قوة على الجذب فيكون التغيير محتما مما يسميه الفيزياويون بالانحناء ونسميه نحن بالتجسير. واذا كان التجنيس انجازا نهائيا، فان العبور هو الفعل القار الذي به تتأكد نهائية ذاك الانجاز. وبناء على فرضية أن المادة الأدبية مرئية في حضورها ذهنيا، يغدو أمر تقولبها في الأجناس الأدبية مدركا بالوعي الموضوعي لماهية الجنس في التنظيم والتطور وبحسب تراكمية الإنتاج الاجناسي الذي هو مدرك بشكل تلقائي وعام.

وتسير الأجناس باتجاه معاكس للأشكال والأنماط والأنواع، وبهذه المعاكسة تؤكد قدرتها على ضم ما يضادها داخليا كما في جنس القصة القصيرة التي فيها تكون المعاكسة سمة بنائية من سمات عبورها الشامل وليست مجرد وظيفة أو وصف أو قابلية. وعادة ما تتفاوت الأجناس في عملية الضم فهناك أجناس معينة قادرة على أن توسع مجال سيرها المتعاكس فتكون عملية الضم شاملة مختلف الأنماط والأنواع والأجناس. وأحياناً تتحدد عملية الضم بالأنواع والأشكال دون الأجناس.

الاستحواذ والعبور

إن سعي الجنس إلى العبور يعني المراوغة في استجابة الجنس الأدبي لرغبة المبدع، وليس في ذلك أي ركون إلى واقع الحال بشكل مؤقت أو تلقائي، بل هو مسعى نظامي، فيه المعاكسة تستهدف تعزيز منزلة الجنس الأدبي وهو أمر لا يصنعه الأدب، بل تصنعه إنتاجية هذا الأدب النوعية الالتفافية على غيرها من الأجناس. وصحيح أن ابتداع الأجناس هو الدليل على نوعية الإنتاج الأدبي وتفرده ولكن وجود الجنس العابر هو تعزيز لمقولة التجنيس الأدبي من جهة، وهو الدليل على نوعية الجنس نفسه من جهة أخرى. وكلما كان الجنس الأدبي منضبطا في حدوده وسائلا في بنيته الداخلية، كان أقدر على تأكيد المعاكسة مع غيره من الأنواع والأنماط والأجناس.

فالأدب إذن قاعدة تخدمها قوة الأجناس التي ما صارت كذلك إلا بسبب تصارعها على خدمته، من خلال حرصها على ضبط تموضعاته الأدبية، في صور محددة بعينها، بدلا من أن تبقى مشتتة الصور. ووسيلتها في سبيل ذلك دائما هي المطاولة في الصراع إلى أن يتحقق التموضع الشامل والنهائي المتمثل بجنس أدبي ذي نظام محدد بالمقاييس الموضوعية المدركة بالوعي والمتبعة بالتقليد وإرادة المسايرة في صناعة الأدب وما تعطيه إياه من شأوٍ يميزه في عالم الإبداع الإنساني.

ولقد كشف تاريخ الأجناس الأدبية أن التجربة العملية لا تكون حقيقية إلا برؤى مثالية تتهيأ لها أوضاع مناسبة، وبموجبها تتحول تلك الرؤى إلى واقع موضوعي يتمثل في التجنيس. ولا يعني الوقوع على جنس أدبي ما أن الرؤى توقفت في مثاليتها عن التخمين والتصنيع بل التجريب يظل مستمرا، فالتجنيس نهائي التقولب ولكنه مستمر في تقوية قالبه على مر الزمان. فلا يذوي وإنما يملك قدرة مضاعفة تعزز ثباته، لا بالتشارك أو التحول أو التفاعل فالأجناس ليست نصوصا كي تتشارك في ما بينها، بل بالعبور الذي به تتأكد إمكانية ما تملكه هندسية قالب ما من القدرة على التقوية فلا تقبل بمخالطة حدودها بحدود نوع معين بل يكون لزاما على هذا النوع أن ينصهر داخلها ويتماهى في نطاق قالبها. وبذلك يتحقق العبور كمحصلة سير نحو هدف منطقي يختبر فاعلية الحدود ويختار انجاز مهمته من خلالها عبر مجموعة ضوابط وأنشطة تبدأ بالضم والتهجين وتنتهي بالتغلب والسيطرة ثم الاستحواذ والعبور.

التميز الكمي الإنتاجي

ومن دون المغالبة بالمعاكسة والتصارع، فإنه من المستحيل للجنس أن يكون عابرا، بل هو جنس كمثل سائر الأجناس يمتلك ضوابط ويعمل بميكانيكية ما يفرضها قالبه وما يعتمد عليه نظامه من مواضعات وظواهر. وليس العبور فعلا عشوائيا بين أطراف شتى دونما تعيينات ومكانيزمات ضابطة للظواهر التي تنتج عن فاعلية التجنيس بالعموم. فهذه الفاعلية هي التي تحدد أو بالأحرى تقرر طبيعة ما لجنس على المدى القريب أو البعيد من تميز كمي إنتاجي على غيره من الأجناس وعلى وفق هذا التميز تكون مؤهلات العبور وقوانينه الداخلية متحققة كإنجاز لذاك الاختبار التجريبي الذي جرى على طريق قد يكون طويلا كي يؤكد عابريته النهائية.

وبالعبور نفهم سبب محدودية الصناعة التجنيسية، فالتطور في ميكانيزمية عملية العبور هو الأكثر تمظهرا من مجرد التطور في ميكانيزمية صناعة الجنس الأدبي، بسبب ما يكشفه العبور من ممكنات تسمح للجنس أن يترسخ ثم يعزز هذا الترسخ، فيكون الاكتفاء به حائلا دون بزوغ حاجات جانبية تفرض ولادة أجناس جديدة.

وإذ ليس ممكنا إنكار جنس أدبي هو قائم كنظام مفروغ منه فكذلك لا يمكن إنكار تطور جنس أدبي ما من خلال ما تكشفه فاعليته في العبور من علاقات ومغالبات تفضي إلى العبور. وبه تتوكد قوة النظام التجنيسي ومؤهلاته الطبيعية التي فرضت عليه وضعية غالبة وخاصة.

فالجنس القوي في قالبه يكون مؤهلا للعبور ويشكل وحدة لا تنفصم عراها كمبدأ يتحقق داخل العملية التجنيسية الثابتة في قالبها والمتغيرة في طبيعة تشكلها الذاتية. وعبور جنس أدبي يعني أن لقالبه بالمجمل فنية تفاعلية خاصة وأثرا منهجيا يفرض علينا أن نتعامل معه انطلاقا من خصوصية هذا القالب المعاكس في عمله لغيره من الأجناس الأدبية. وهو ما ينطبق تمام الانطباق على قصيدة النثر كجنس عابر، وسبب عبوره هو ما يمتلكه قالبها من مؤهلات وخصائص. 

Provided by SyndiGate Media Inc. (Syndigate.info).

2024-05-07T19:07:09Z dg43tfdfdgfd